الحمد لله المحمود على كل حال ، و نعوذ بالله من حال أهل الضلال . أحمده سبحانه و أشكره و أسأله المزيد من فضله و كرمه و التوفيق في الحال و المآل . و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده و رسوله ، كريم المزايا و شريف الخصال ، صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و صحبه خير صحب و آله ، و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
أيها المسلمون :</STRONG> يقول الله تبارك و تعالى في وصف المؤمنين من عباده : " وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين "
اللغو أيها المسلمون : </STRONG>خوض في باطل ، و تشاغل بما لا يفيد . أمر الله سبحانه بالإعراض عنه ، و نهى عن الوقوع فيه ، ففيه مضيعة للعمر في غير ما خلق الإنسان لأجله . إنه مخلوق لعبادة ربه ، و الخلافة في هذه الأرض بالعمل المثمر الصالح ، و الحياة النافعة الجادة .
من أجل هذا كان البعد عن اللغو و الإعراض عنه من دلائل الكمال و الفلاح ، لقد ذكره الله سبحانه بين فريضتين من فرائض الإسلام المحكمة ، ذكره بين فريضتي الصلاة و الزكاة ، فقال عز شأنه : " قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون".
أيها المؤمنون اللغو في شتى صوره : </STRONG>خوض في باطل ، و تحدث بالمعاصي ، و ترويج للفواحش ، و تتبع للعورات ، و تندر بالناس ، و انتقاص و سخرية بهم. و نصيب النساء في ذلك راجح . فليتق الله كل مؤمن و مؤمنة ، فويل لكل همزة لمزة . وويل لكل حلاف مهين هماز مشاء بنميم .
أيها المسلم : </STRONG>لو نظرت فيما يشغل الناس في فراغهم و غير فراغهم لرأيت ما يروع من لغو الحديث و العمل . ألا يروعك أن تجد القصص المنشورة، و الصحف المشهورة ، و الكلمات المذاعة ، و الصور المبثوثة . إنها في أغلبها لغو . . تنشغل به الأعين ، و تمتلئ به الآذان ، و تلوكه الألسن .
و إن من أعظم ما تنشغل به الكافة من صنوف اللغو . . الكذب و النميمة و شهادة الزور و الغيبة ، و السباب ، و الشتائم ، و اللعن و القذف ، و التقعر في الكلام و التشدق فيه من أجل التعالي و استدرار المديح .
بل إن في الناس من يعيش صفيق الوجه ، شرس الطبع ، لا تحجزه مروءة ، و لا يردعه دين أو أدب . . جرد لسانه مقراضاً للأعراض بكلمات تنضح فحشاً ، و ألفاظ تنهش نهشاً ، يسرف في التجني على عباد الله بالسخرية و اللمز . . فهذا طويل و ذاك قصير و هذا أحمق و ذاك جهول ، و كأنه قد وكل إليه تجريح عباد الله .
أما سمع قول الله عز و جل : " سنكتب ما قالوا " .
و قوله عز من قائل : " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ".
و يزداد الأمر و تعظم البلية حين ترى من عليه علامات الوقار ، و ملامح الاحتشام ، و سيما الوجاهة ، و هيئات العلماء ، يسفر عن بذاء و ثرثرة . . يصم الخوض في الباطل أذني جليسه . . لا يدع لأصحاب فضل فضلاً . . يحمل عليهم الحملات الشعواء أحياء و أمواتاً لزلة لسان أو سبق قلم . هلا حجزه عن عيوب الناس مال يعلم من عيوب نفسه ؟ طوبى لمن ملك لسانه ، و أنفق الفضل من ماله ، و أمسك الفضل من قوله .
أيها المسلمون :</STRONG> إن فضلاء الرجال و عظماءهم . . إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ، فلا تبدر منهم لفظة نابية ولا عبارة ناشزة . و لا انتصار للنفس ، وإذا ضمه مجلس مع أمثال هؤلاء اللاغبين لا يفقد خلقه مع من لا خلاق له ، و لو أنه شغل بتأديب كل جهول لأعيته الحيل .
عباد الله :</STRONG> من أجل البعد عن اللغو ، وأخذ النفس بالأدب ، و الالتزام بالفاضل من القول و العمل ، ينبغي ملاحظة أمور منها :</STRONG> تجنب كثرة المزاح والإفراط فيه، فهو يسقط الوقار ، و يورث الضغائن ، و يولد الأحقاد ، أما اليسير منه الباعث على الانبساط و انشراح النفس فلا بأس به . فقد كان عليه الصلاة و السلام يمزح و لا يقول إلا حقاً ، و ينبغي أخذ النفس بكظم الغيظ </STRONG>، و العفو عن المسيء ، و الإعراض عن الجاهل .</STRONG> و كيف يكون الإنسان كريماً ذا خلق و هو لا يقيل عثرة ، و لا يدمح زلةً ، و لا يقبل معذرةً ؟ و لا بد من اجتناب الجدل ، و سد أبواب المراء ، و لو كان في حق ، فإن من كثر كلامه قل في الناس احترامه .
وجماع ذلك كله في حفظ اللسان ففيه الخير و فيه السلامة </STRONG>. و لا يذهب الرشد إلا مع كثرة الكلام والثرثرة . و إذا لم يملك الإنسان نفسه كان فمه مدخلاً لكل ما يعاب ، فتتلوث السيرة ، و يغلظ الحجاب على القلب .
سأل سفيان بن عبد الله الثقفي نبي الله محمداً صلى الله عليه و سلم ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسانه و قال : هذا .</STRONG>
و قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل : " ثكلتك أمك يا معاذ و هل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" .
إن اللسان حبل مرخي في يد الشيطان يصرف صاحبه كيف يشاء </STRONG>، و إن المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم بان حاله . و لهذا يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : و الله الذي لا إله إلا هو ليس شيء أحوج إلى طول سجن من لسان . </STRONG> بل إن جوارح الإنسان كلها مرتبطة باللسان في الاستقامة و الاعوجاج .
روى الإمام الترمذي وغيره بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ـ أي تخضع له ـ فتقول : اتق الله فينا فإنما نحن بك ، فإن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججننا ".
فاتقوا الله أيها المسلمون وأعرضوا عن اللغو و الجاهلين ، و اتقوا آفات اللسان، فمن كثر سقطه كثرت ذنوبه </STRONG>، ومن كثرت ذنوبه فالنار أولى به كما قال عمر رضي الله عنه . و إن الرجل ليتكلم الكلمة ما يتبين فيها يزل فيها النار أبعد ما بين المشرق و المغرب كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه و سلم.</STRONG>
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ".
نفعني الله و إياكم بهدي كتابه و بسنة نبيه محمد صلى الله عليه و سلم . أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم . </SPAN>
</SPAN>
الخطبة الثانية:</STRONG>
الحمد لله يهدي إلى الطيب من القول و يهدي إلى صراط الحميد ، أحمده سبحانه و أشكره . و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله أدبه ربه فأحسن تأديبه صلى الله عليه و على آله و صحبه ، و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فاتقوا الله أيها المسلمون ، و احفظوا جوارحكم ، و صونوا أنفسكم عن سفيه الأقوال و الأفعال .
واعلموا أنه لا بد من التمييز بين مداراة السفهاء و الإعراض عن الجاهلين، و بين إحقاق الحق و الرد على المبطلين </STRONG>.
فالمداراة و الإعراض تعني :</STRONG> ضبط النفس أمام استفزازات الجهلاء ، وكفها عن الاستثارة لعوامل الغضب و الثأر .</STRONG> أما إحقاق الحق والرد على المبطلين : فهو دعوة ومجادلة بالتي هي أحسن ، و إظهار لعزة أهل الحق ، و تجنب لبلادة النفس و استكانتها . و هذا النوع مما يسوغ الخوض فيه ، بل قد يكون منه ما يحرم السكوت عليه . و هو باب واسع يشمل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، وتعليم الجاهل ، وتنبيه الغافل ، و الدعوة إلى الله ، و ذكره ، و شكره و في كل ذلك يقول سبحانه : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما".
و يقول سبحانه : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما * إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ".
و أمر آخر أيها المسلمون لا بد من التنبه إليه في هذا المقام . ذلك أنه ينبغي للمؤمنين إذا ضمهم مجلس ألا يخلو من ذكر الله فإن نبيكم محمداً صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة " . أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
ولفظ الترمذي : "ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه و سلم إلا كان عليهم ترة".
و لهذه المجالس كفارة أرشد إليها النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : " من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك ".